:السؤال عن العمر
فإن اللـه عز وجل يسأل العبد بعد الصلاة عن أربع :
عن عمره فيما أفناه ؟! وعن علمه ماذا عمل فيه ؟! وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟! وعن جسمه فيما أبلاه ؟! هذه الأربع هى موضوع لقاءنا مع حضراتكم فى هذا اليوم الكريم المبارك .
أخواني الكرام : أعيرونى القلوب والأسماع فإن الموضوع من الأهمية بمكان واللـه أسأل أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض .
ولا شك أن اللـه عز وجل سيسأل العبد فى ساحة الحساب عن كل ما قدم فى هذه الحياة .
قال اللـه سبحانه : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7،8 ] .
وقال جل وعلا : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ الحجر : 92،93 ] .
فكم من معصية قد كنــت نسيتها
ذكرك اللـه إياهـــــــــا
وكم من مصيبة قـد كنـت أخفيتها
أظهرها الله لــــك وأبـداهـا
ولكن النبى صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن اللـه سبحانه سيسأل العبد بعد الصلاة عن أربع كما فى الحديث الصحيح الذى رواه الترمذى والطبرانى فى معجمه والصغير ، والخطيب فى التاريخ ، وصححه شيخنا الألبانى فى السلسلة الصحيحة وصحيح الجامع من حديث عبد اللـه بن مسعود رضى اللـه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ وعن علمه ما عمل به ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيما أبلاه ؟ )) ([1]) .
:السؤال عن العمر
أخوتي فى اللـه :
العمر هو البضاعة ، ورأس المال فمن ضاعت بضاعته ، وانتهى رأس ماله دون أن يحقق الربح فهو من الخاسرين .
هل حسبت أن هذا العمر ، وهذه الأيام ، وهذه الشهور وهذه السنوات ، التى هى عمرك ، والتى تمضى منك ، وأنت لا تشعر ، هل حسبت أن اللـه لن يسألك عنها ؟!!
قال اللـه تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [ المؤمنون : 115 - 116 ] .
وقال سبحانه : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37)ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38)فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(39)أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى }
[ القيامة : 36،40 ]
أليس ذلك بقادر على أن يبعثهم للوقوف بين يديه للسؤال عما قدموه وعما فعلوه .. للسؤال عن القليل ، والكثير ، صغير أو كبير ، حقير أو عظيم !!
أيها المسلم الأيام تمر والأشهر تجرى وراءها تسحب معها السنين ، وتجر خلفها الأعمار وتطوى حياة جيل بعد جيل وبعدها سيقف الجميع بين يدى الملك الجليل .
العمر يولى ستسأل عن كل ساعة ، عن كل يوم ، عن كل أسبوع ، عن كل سنة ، عن عمرك كله فيما أفنيته .
قال الحسن البصرى رحمه اللـه تعالى : " يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإن مضى يوم مضى بعضك وإن مضى بعضك مضى كلك " .
ولذا كان الحسن رحمه اللـه يقول : " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينادى بلسان الحال ويقول يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمنى فإنى لا أعود إلى يوم القيامة .
وكان عبد اللـه بن مسعود رضى اللـه عنه يقول : " واللـه ما ندمت على شئ كندمى على يوم طلعت شمسه نقص فيه أجلى ولم يزد فيه عملى ".
العمر هو البضاعة الحقيقة ، وواللـه ما منحنا هذه البضاعة الكريمة للهو واللعب والملزات والشهوات ، واللـه ما للهو خلقنا بل خلقنا لغاية كريمة ولغاية عظيمة .
قال جل وعلا : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
هذه هى الغاية التى خلق اللـه لها الخلق ، واللـه ما خلقنا اللـه لنضيع الأعمار أمام المسلسلات ، وأمام المباريات ، وأمام الأفلام ، وأمام هذا العبث واللـهو الذى تحول فى حياة هذه الأمة المسكينة إلى جد .
ومن أجمل ما قيل فى قول اللـه تعالى فى حق نبى اللـه يحيى { وَأتينَاهُ الحكْمَ صَبِياً } [ مريم : 12 ] .
قال جمهور المفسرين أى أتاه اللـه الحكمة وهو طفل صغير فذهب إليه يوماً بعض أترابه من زملائه قبل أن يوحى اللـه إليه بالنبوة فقالوا : يا يحيى هيا بنا لنلعب ! فقال يحيى : واللـه ما للعب خلقنا واللـه ما للهو والعبث خلقنا .
واللـه ما خلقنا لنضيع الأعمار ، فإن جُلَّ الأمة الآن يقضى جُلَّ الليل أمام التلفاز ولا حول ولا قوة إلا باللـه العلى العظيم .
يا من يمضى عمرك وأنت لا تدرى .. اعلم بأنك ستسأل عن هذه الساعات.. ستسأل عن هذا العمر..
وتذكر يا من يمضى عمرك وأنت فى غفلة أن الدنيا مهما طالت فهى قصيرة ، ومهما عظمت فهى حقيرة وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر ، وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر ، تذكر وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم لعبد اللـه بن عمر كما فى صحيح البخارى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بمنكبى عبد اللـه بن عمر وقال يا عبد اللـه
(كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))([2]) .
ما أحوجنا ورب الكعبة لهذه الكلمات ، ونحن نعيش الآن عصراً طغى فيه حب الشهوات وحب الملزات وحب الدنيا ، فإن كثيراً من الناس يُذَكَّر بقول اللـه فلا يتذكر !! ، ويُذَكَّر بحديث رسول اللـه فلا يتحرك قلبه وكأن القلوب تحولت إلى حجارة !!
قال اللـه تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ البقرة : 74 ]
وقال اللـه تعالى : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] .
اللـهم ارزقنا التفكير فى آلائك ونعمك برحمتك يا أرحم الراحمين .
وكان ابن عمر يقول : " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء " .
قيل لإبراهيم بن أدهم طيب اللـه ثراه ، يا إبراهيم : كيف وجدت الزهد فى الدنيا ؟!
فقال إبراهيم : بثلاثة أشياء ، قيل : وما هى ؟!
قال إبراهيم : رأيت القبر موحشاً وليس معى مؤنس ، ورأيت الطريق طويلاً وليس معى زاد ، ورأيت جبار السموات والأرض قاضياً وليس معى من يدافع عنى .
أيها الأحبة الكرام : الدنيا كلها إلى زوال والعمر كله إلى فناء ، ويوم أن نام السلطان الفاتح محمد بن ملك شاه على فراش الموت ، وكان من السلاطين الأثرياء الأغنياء قال : اعرضوا عَلَىَّ كل ما أملك من الجوارى والغلمان ، والنساء ، والأموال ، والجواهر بل ، وليخرج الجند جميعاً ، فخرج الجيش عن بَكْرَة أبيه ، فنظر السلطان إلى هذا الملك العظيم وبكى وقال : واللـه لو قَبِلَ منى ملك الموت كل هذا لافتديت به !!
ثم نظر إلى جنوده وقال : أما هؤلاء واللـه لا يستطيعوا أن يزيدوا فى عمرى ساعة ثم أجهش بالبكاء وقال : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [ الحاقة : 28 - 29 ].
وهذا أخوه هارون الرشيد الذى كان يخاطب السحابة فى كبد السماء ، ويقول لها : أيتها السحابة فى أى مكان شئت أمطرى فسوف يحمل إلى خراجك إن شاء اللـه تعالى .
لما نام على فراش الموت بكى هارون وقال لإخوانه : أريد أن أرى قبرى الذى سأدفن فيه !!
فحملوه إلى قبره ، فنظر هارون إلى قبره وبكى ورفع رأسه إلى السماء : وقال يا مَنْ لا يزول مُلكه ارحم من زال ملكه .
دع عنك ما قد فات فى زمـن، الصبا
واذكـر ذنوبك وابكها يا مذنــبُ
لم ينسـه الملكـان حيـن نسيتـه
بــل أثبتاه وأنـــت لاهٍ تلعبُ
والروح منك وديعة أودعتهــــا
ستــــردها بالرغم منك وتُسلبُ
وغرور دنياك التـى تَسْعَــى لها
دارٌ حقيقتهـــــا متـاعٌ يذهبُ
الليل فاعلم والنهـــار كلاهمـا
أنفاسنا فيها تُعَــــدُّ وتُحسَــبُ
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [ المؤمنون : 115،116]
أخى الكريم :أختي الفاضلة
لن تتحرك قدمك يوم القيامة حتى تسأل عن عمرك .
انتبه يا من تغافلت عن هذه البضاعة ورأس المال الحقيقى الذى تملكه ألا وهو عمرك ، واعلم يقينا أن كل يوم يمر عليك يبعدك عن الدنيا يوما ويقربك من الآخرة يوماً .
قال لقمان الحكيم لولده : أى بُنَىّ إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها .
ولقى الفضيل بن عياض رجلاً فقال الفضيل : كم عمرك ؟!
قال الرجل : ستون سنة ، قال الفضيل : إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى اللـه يوشك أن تصل .
فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون .
قال الفضيل : هل عرفت معناها ، قال : نعم عرفت أنى لله عبد وأنى إلى اللـه راجع .
قال الفضيل : يا أخى من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع ، عرف أنه موقوف بين يديه ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول ، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً .
فبكى الرجل وقال : يا فضيل وما الحيلة ؟! قال الفضيل : يسيرة ، قال : ما هى يرحمك اللـه ، قال : أن تتقى اللـه فيما بقى من عمرك يغفر اللـه لك ما قد مضى ، وما قد بقى من عمرك .
([1]) رواه الترمذى رقم (2419) ، فى صفة القيامة ، باب رقم (1) ، وقال : حسن صحيح ، وصححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (946) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (7299) .
([2]) رواه البخارى رقم (11/192) ، فى الرقاق ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم(( كن فى الدنيا كأنك غريب )) ، والترمذى رقم (2334) ، فى الزهد ، باب ما جاء فى قصر الأمل .
__________________