تؤكد الدراسات العصبية والنفسية الحديثة على أن عمليات التعلم والاحتفاظ بما يتعلمه الإنسان وتذكر ما تعلمه ، وكذلك عملية النسيان، كلها عمليات عصبية فيزيولوجية حيوية.
وهذه العمليات تتأثر بالعامل الوراثي إلى جانب عامل البيئة والاكتساب... والذاكرة تفترض وجود عملية التعلم والاكتساب للخبرات فبدون تعلم لا توجد هناك ذاكرة , والإنسان عليه أن يتعلم وأن يستفيد من خبراته السابقة الموجودة في ذاكرته من أجل أن يتوقف مع مواقف الحياة المختلفة والمتغيرة من حوله , لذلك فإن عملية التعلم واكتساب الخبرات تتطلب ثبات أو ديمومة ما يتعلمه الإنسان في الذهن أي في الذاكرة حتى يستفاد منها وقت الضرورة. وثبات المادة في الذهن، أو الاحتفاظ بالمادة (RETENTION) يتأثر بعدة عوامل، مثل:
الانتباه والتركيز والفهم والاهتمام أو الدافعية ونوع المادة التي يتعلمها الإنسان...
وكذلك يتأثر ثبات المادة في الذهن بالعوامل الصحية والمرضية، وإصابات الدماغ، وتعاطي العقاقير، والعوامل النفسية...
وعملية الاحتفاظ بما يتعلمه الإنسان تتطلب عملية الاستدعاء (RECALLING)، أي تذكر الخبرات وما تعلمه الإنسان في المواقف السابقة، لهذا فإن الباحثين في مجال الذاكرة يرون بأن عملية التعلم والاحتفاظ والتذكر تشكل كلها ما يسمى بعناصر الذاكرة.
لهذا فقد جاء في تعريف الذاكرة بأنها (الوظيفة العقلية العليا التي يتمكن الإنسان بواسطتها من حفظ نتائج تفاعله مع العالم الخارجي منذ لحظة ولادته وحتى نهاية الحياة)، كما جاء في تعريف الذاكرة بأنها (مجموعة الخبرات الشخصية كما هي مسجلة في دماغ الإنسان).
الذاكرة هي مستودع التجارب والانطباعات التي اكتسبها الإنسان في حياته عن طريق الحواس والعالم الخارجي، وهي انطباعات ترد على شكل صور ذهنية ترتبط معها أحاسيس ومشاعر سارة أو غير سارة.
ويعتقد بعض الباحثين بأن هناك مصادر غير مادية لمكنونات الذاكرة، مثل الخبرات الموجودة في اللاشعور (UNCOSCIOUSNESS) وما يسمى بالحاسة السادسة، وتأثيرات ما يسمى بالجسد الأثيري وغير ذلك...
والواقع أن الكثير من الانطباعات والأحاسيس والأفكار، تتسلل إلى ذاكرتنا دون أن يشعر بها العقل الواعي حيث تنتقل هذه الأفكار والصور والأحاسيس من اللاشعور وتدخل أرشيف العقل.
ومن أهم مصادر الذاكرة الأحلام التي تتضمن صور وموضوعات هي عبارة عن رغبات دفينة في لا شعور الإنسان، حيث نجد الإنسان النائم يتعرف خلال حلمه على معلومات جديدة كانت مكبوتة في اللاوعي أو في اللاشعور، وهي معلومات غالباً ما تمثل ذكريات الماضي ودوافع أو رغبات مكبوتة أو منسية.
أسباب النسيان:
مما لا شك فيه بأن عملية التعلم والاحتفاظ بالخبرات وعملية الاستدعاء أو التذكر، تفترض كلها عملية النسيان، والإنسان العادي ليس هو الذي يتذكر الأحداث أو الخبرات التي تعلمها وحسب، ولكنه هو الذي يتعرض أيضاً إلى عملية النسيان...
وعملية النسيان هذه هي عملية فيزيولوجية عصبية حيوية وهي إحدى وظائف الدماغ، حيث يقوم الدماغ بعملية كف أو تثبيط لبعض الذكريات التي لم تعد تهم الإنسان، ويدفع الدماغ بهذه الخبرات إلى حيزّ اللاوعي (أو اللاشعور) ...
وللنسيان عدة فوائد عقلية وصحية ونفسية إذا هو تمَّ بالشكل العادي، فهو بمثابة راحة، وتخفيف الأعباء على الدماغ، وفي نفس الوقت تجديد للنشاط، وإتاحة الفرصة لخبرات جديدة يتعلمها الإنسان، والتخلي عن معلومات أو خبرات قديمة لم تعد تفيد بسبب عمليات التطور أو التعلم الجديد...
من هنا يعتبر البعض عملية النسيان على أنها محو التعلم السابق، وإتاحة الفرصة لتعلم جديد، لهذا فإن كثيراً من الأفراد العاديين الذي يشكون من النسيان يتبين بعد عمليات التشخيص الدقيق أنهم لا يعانون من اضطراب الذاكرة وأن النسيان لديهم هو أمر طبيعي أو مقبول، وأنه ليس ثمة مدعاة للخوف أو القلق، فكل إنسان ينسى.
والنسيان في حدوده العادية أمر صحي ومفيد، والاختصاصي في علم النفس أو الطب النفسي هو الذي يميز بين حالات النسيان العادية، والحالات المرضية التي تؤثر سلباً على وظائف الفرد الحياتية.
العوامل المؤثرة في الذاكرة
حسب الدراسات الطبية والنفسية والعصبية... هنالك مجموعة من العوامل التي تؤثر في ذاكرة الإنسان وفي عملية النسيان، من أهمها:
1ـ العوامل الصحية والعضوية والنفسية التي تؤثر في حياة الإنسان وفي قدرته على التعلم والانتباه والفهم والحفظ، مثل إصابات الدماغ، وإصابات الحواس، والأمراض النفسية كالقلق، والتوتر، والاكتئاب، والمخاوف بأنواعها...
2ـ مستوى التعلم والإتقان للمادة التي يتعلمها الإنسان، ومستوى التدريب العملي إلى جانب التعلم النظري، وكذلك التعلم على مراحل منتظمة (مقابل التعلم المكثف) يتخللها استراحة عقلية ونفسية مناسبة، مع وجود اهتمام ودافعية لعملية التعلم أو لاكتساب الخبرات، فالأمور التي تهم الإنسان تثبت في ذاكرته أكثر من الأمور التي لا تهمه والتي سرعان ما ينساها.
3ـ مدى استعمال الخبرات خلال حياة الإنسان، فقد ثبت بأنه كلما استعمل الإنسان خبراته على فترات زمنية غير متباعدة كلما أدى ذلك إلى مستوى احتفاظ مرتفع، وذاكرة قوية، وكلما قاوم عملية النسيان.
4ـ درجة المعنى أو الفهم لخبرات الإنسان أو لما يتعلمه في الحياة، فقد ثبت أن الخبرة ذات المعنى والمترابطة في عناصرها، والمفهومة بشكل واضح تسهل عملية الاحتفاظ في الذاكرة، كما تسهل عملية التذكر.
5ـ وهناك ما يسمى بعامل الكف حيث تؤثر المعلومات المتعلمة (أو المكتسبة) الجديدة أو اللاحقة على المعلومات المتعلمة والخبرات السابقة لدى الفرد، ويحدث بينهما تداخل وتفاعل يؤدي إلى ترك أو نسيان المعلومات التي لم تعد تفيد الإنسان في حياته...
6ـ وبشكل عام إن الذاكرة والنسيان تتأثر بعدة عوامل وأوضاع يمر بها الفرد مثل قدرات الفرد العقلية (الذكاء) ودافعية الفرد، واهتماماته، وصحته، وحالته النفسية، وأوضاعه الأسرية و الاجتماعية والتعليمية، وعوامل الكبت، والحرمان، وكذلك عمر الفرد ومرحلة نموه، والإدمان على الكحول والمخدرات وغير ذلك.
خصائص النسيان
الدراسات العلمية تؤكد بأنه لا يوجد نسيان تام لأي خبرات أو معلومات مضى عليها سنوات طويلة قد تتجاوز الخمسين، أو الستين، أو السبعين عاماً (شريطة أن يكون الفرد عادياً، ولم يتعرض إلى إصابة دماغية أو عصبية أو نفسية تؤثر في وظائفها العقلية أو في عملية الاحتفاظ والتذكر لديه , وقد أجرى العالم الألماني إبنجهاوس مجموعة دراسات حول عملية النسيان، ووجد بأن النسيان يحدث بسرعة كبيرة بعد عملية التعلم أو التدريب ثم يأخذ بالتباطؤ مع الزمن إلى أن تأخذ عملية النسيان شكل الخط المستقيم دون أن تصبح صفراً وانتهى هذا العالم إلى أن النسيان لا يكون تاماً.
والفرد قد يكون غير قادر نهائياً على تذكر خبرات سابقة أو جزء منها، ولكن هذا الفرد إذا استعاد تعلم هذه الخبرات (التي كان قد تعلمها سابقاً ونسيها تماماً في الوقت الحاضر) نجده يتعلمها من جديد بوقت أسرع وجهد أقل. مما يشير إلى أن هناك أثراً متبقياً في ذاكرة الفرد لهذه الخبرات التي تعلمها قبل سنوات طويلة، وأن هذا الأثر هو الذي وفر الوقت والجهد في عملية التعلم الجديدة، وهذا ما يسمى بطريقة التوفير.
ونحن نعلم بأن الفرد بإمكانه عن طريق الأحلام، أو في بعض حالات التخدير، أو أثناء جلسات التحليل النفسي وعمليات التداعي الفكري، أو التنويم المغناطيسي، أن يتذكر أحداثاً وخبرات حدثت معه قبل سنوات طويلة أو من الطفولة ولم يتمكن من تذكرها، وأنه نسيها تماماً.
وبشكل عام لا يوجد شيء نتعلمه ننساه تماماً، والجدول التالي يبين متوسط الاقتصاد في الوقت في حالة إعادة تعلم خبرات سابقة تتعلق بأبيات شعر كان قد تعلمها الفرد قبل خمس سنوات.
إن الذاكرة تضعف تدريجياً مع مرور الزمن وتقدم العمر، مما يعرض المرء إلى بطء عملية التذكر أو الاستدعاء، وقد تثبت بأن الخبرات والمعلومات التي يتذكرها الإنسان بعد فترة من الزمن لا تبقى على حالها كما كانت عليها في السابق بل تتعرض إلى التشويه، والى التحليل أو التفكيك، وضياع التفاصيل الدقيقة، وبقاء الهيكل العام، وهذه الذكريات قد تتعرض إلى عمليات الحذف والإضافة، أي إضافة صفات لم تكن موجودة في الأصل أو اختزال صفات كانت موجودة في أصل الخبرات.
تخزين المعلومات
لقد كانت هناك دراسات حول الذاكرة والوراثة، وقد ثبت أن هناك فروقاً بين الأفراد من حيث الذاكرة والبنية الدماغية والوظائف العقلية، ترجع إلى عوامل وراثية...
ثم تتالت الدراسات العصبية حول الذاكرة، وافترضت هذه الدراسات المبكرة أن الخبرات التي يحصل عليها الإنسان تتوضع داخل المراكز العصبية على شكل شبكات أو دارات عصبية، وعند الحاجة يتمكن الفرد من استدعاء هذه الخبرات...
وفسر علماء الأعصاب ذلك بأن عملية التعلم أو اكتساب الخبرات تعمل على تنشيط المراكز العصبية في الدماغ، وبالتالي على الاحتفاظ بهذه الخبرات، ولاحظ علماء الأعصاب بأن الحوادث التي تصيب الفص الصدغي في المخ يصحبها اضطراب في الذاكرة، وأيد ذلك عالم الأعصاب (بنفلد) الذي قام بتنبيه بعض المراكز العصبية في الفص الصدغي بواسطة منبه كهربائي وتمكن من إثارة ذكريات خاصة بالفرد.
كما تبين من بعض الدراسات العصبية بان تنبيه بعض المراكز العصبية في المخ تؤدي إلى حدوث النسيان، مثل تنبيه الجزء الخلفي من الفص الصدغي...
وأجريت عدة دراسات (على الحيوان ثم على الإنسان) تبين من خلالها بأن أهم المراكز العصبية في الدماغ للذاكرة هي:
1ـ المنطقة الصدغية من القشرة الدماغية.
2ـ الأجسام الحلمية في منطقة الهيبوتلاموس.
3ـ الجهاز الطرفي أو الحفري.
يضاف إلى ذلك دور التكوين الشبكي في الدماغ، وقد ثبت بأن الجهاز الطرفي (وأبرز الأجزاء فيه المسمى بحصان البحر) هو أهم جزء عصبي يقوم بوظيفة الذاكرة.
وفي عملية انتقال المعلومات من الذاكرة القريبة (أو قصيرة المدى) إلى الذاكرة طويلة المدى.
كما ثبت بأن القشرة المخية الجبهية تلعب دوراً هاماً في الذاكرة، وأن إصابة هذه القشرة المخية الجبهية يؤدي إلى نسيان المعلومات الآنية.
وفي عام (1959) بدأت دراسات عصبية حيوية حول الذاكرة على يد هايدين، وإيجيهاذي، عام (1963) أجريت على الفئران، وتم التواصل إلى دور الحمض (RNA) يعمل كوسيط للذاكرة، وفي دراسات أخرى تبين بأن المضادات الحيوية لها خاصية إعاقة التركيب البروتيني للحمضين (RNA)، وبالتالي لها تأثير سلبي على الذاكرة، كما توصلت هذه الدراسات إلى دورة مادة (الأستيل كولين) في عملية التعلم والذاكرة.
وفي المعهد الوطني للصحة العقلية في أمريكا أجرى كل من دافيد فردمان عام (1985) وشنايدر عام (1986) دراسات حول ما يسمى بذاكرة الحواس، وتم الكشف عن موضع ذاكرة اللمس في السطح الداخلي للفص الدماغي الصدغي في نصفي كرة المخ وفي موضعين هما حصان البحر، وما يسمى باللوزة.
وأثبتت المداخلات الجراحية العصبية صحة هذه النتيجة، حيث تبين بأن إزالة اللوزة لدى حيوانات التجربة تؤدي إلى عدم التذكر، خاصة للخبرات البصرية والحسية، أما إزالة اللوزة وحصان البحر معاً فإنها تؤدي إلى زوال تام أو شامل للذاكرة بكافة أبعادها، وقد لوحظ بأن معظم اضطرابات الذاكرة كما في متلازمة كورساكوف وحالات الأورام وأعراض مرض الزهايمر وغيرها، تكون بسبب إصابة هذه الأجزاء من الدماغ.
وفي مجال الدراسات الحيوية أكدت الدراسات التي أجراها آري روتنبرغ في جامعة نورث وسترن بأن إضافة زمرة فوسفات إلى بروتين دماغي يعرف بـ(F1)، ويزيد من القدرة على اختزان الذكريات، وهناك دراسات أخرى.
أنماط الذاكرة
هناك عدة أنماط للذاكرة مثل:
1ـ الذاكرة البعيدة أو القديمة والتي تشتمل على معلومات مضى عليها زمن طويل.
2ـ الذاكرة القريبة وهي الخبرات التي مضى على تعلمها أيام أو أسابيع وتسمى بالذاكرة الحديثة.
3ـ الذاكرة الآنية أو الحالية وهي تتعلق بتذكر الموضوعات التي تعلمها الفرد في الوقت الحاضر.
وهناك أيضاً تصنيفات طبية نفسية للذاكرة مثل:
1ـ الذاكرة البصرية.
2ـ الذاكرة الحسابية.
3ـ ذاكرة المفردات.
4ـ الذاكرة المنطقية.
5ـ ذاكرة العلاقات
6ـ ذاكرة التحكم العقلي
هذا ويوجد مقاييس لقياس أبعاد الذاكرة وتحديد مستوى الضعف أو التدهور في الذاكرة... كما أن هناك معايير خاصة لاضطراب الذاكرة صادرة عن الجمعية الأميركية للطب النفسي.
أمراض الذاكرة
كلنا نعلم بأن الاضطرابات العضوية مثل حالات فقر الدم الحاد، ونقص فيتامين (B1) وحالات الإدمان، واضطراب الغدد الصماء، وأمراض شرايين المخ، والحميات والأورام، وحالات الصرع... كلها تؤثر في الذاكرة، وبالإضافة إلى الإصابات والأمراض العقلية واضطرابات الذاكرة تؤثر في وظائف الفرد الحياتية الأسرية والاجتماعية والمهنية... ومن أهم اضطربات الذاكرة:
1ـ حالات العته وفقدان الذاكرة.
2ـ العته المصاحب لأعراض مرض الزهيمر.
3ـ فقدان الذاكرة وذهان كورساكوف.
4ـ فقدان الذاكرة والشلل الجنوني العام (الزهري العصبي).
5ـ حالات الأفازيا النسيانية
6ـ فقدان الذاكرة الهستيري.
7ـ وهناك اضطرابات أخرى.
علاج ضعف الذاكرة
إذا لم يكن هناك إصابة عصبية دماغية، أو مرض عضوي خطير فإنه يمكن تشخيص وعلاج ضعف الذاكرة، علماً بأنه لا توجد أدوية تحقق المعجزات باستثناء بعض الأدوية التي لها تأثير جيد وغير مباشر على الذاكرة.
وقد ثبت بأن مادة الكافئين، والأمفيتامينات، والنيكوتين ومواد الباراسيتام، والبيمولين، والأستركنين، والمترازول، من المواد المنشطة للذاكرة.
وهناك أدوية تستخدم لتنشيط الدورة الدموية الدماغية وتحسن من الوظائف العقلية.
وبعض الباحثين يؤكدون على أهمية التغذية المتوازنة وتوفير مجموعة فيتامينات (B)، بالإضافة إلى حامض الفوليك، والأملاح المعدنية، وبالإضافة لذلك فقد تبين من الدراسات في كلية طب جامعة ستانفورد (1994) إمكانية تقوية الذاكرة عن طريق تدريبها، وتم وضع برامج خاصة، وحسابية (أرقام) وشعر، وألعاب فكرية... طبقت على مسنين فوق عمر (75) سنة يعانون من ضعف الذاكرة وتبين فائدة هذه البرامج، كما وضعت بعض شركات الأدوية برامجاً خاصة لتدريب وظائف الدماغ والذاكرة.
وفي النهاية نقول بأن الإنسان الواعي صحياً ونفسياً وفكرياً هو الذي يعمل على الحفاظ على ذاكرته وتنشيطها وتدريبها بالشكل الصحيح ومهما تقدم العمر بهذا الإنسان