بقلم / أحمد حسين خليل
كلية الدراسات الإسلامية و العربية جامعة الأزهر
أولاً : مقصد الشارع الحكيم من تشريع الطلاق ، والحكمة الإلهية من ذلك .
مما لاشك فيه أن ديننا الإسلامي قد جعل الطلاق في أضيق الحدود، وفي حالة استحالة العشرة بين الزوجين ، وبما لا تستقيم معه الحياة الزوجية ، وصعوبة العلاج إلا به وحتى يكون مخرجاً من الضيق وفرجاً من الشدة في زوجية لم تحقق ما أراده الله ـ سبحانه وتعالى ـ لها من مقاصد الزواج التي تقوم على المودة والسكن النفسي والتعاون في الحياة .
كما أن الطلاق ظاهرة عامة وموجودة في كل المجتمعات وبنسب متفاوتة وهو أمر عرفته البشرية من قديم الزمان ، وكانت له طرق وأشكال تختلف من بيئة إلى بيئة ، ومن عصر إلى عصر ، وقد أقرته جميع الأديان كلٌ بطريقته ، كما عرفته عرب الجاهلية لأنه كان شريعة إبراهيم وإسماعيل –عليهما السلام-، ففي حديث البخاري أن سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال لزوجة ولده إسماعيل التي شكت حاله قولي له : " يغير عتبة داره " ، ففهم إسماعيل من ذلك أنه ينصحه بطلاقها، فطلقها(1).
وعندما جاء الإسلام كان امتداداً لدين إبراهيم كما قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾(2). فأقر الإسلام الطلاق ونظمه تنظيماً دقيقاً مراعياً في ذلك استقرار الأسرة وسعادتها من ناحية وحفظ كيان المجتمع البشري بأكمله من ناحية أخرى ، يقول الله تعالى: ﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ (3)
ولو وضع الإسلام أو المشرع قانوناً يُحرم الطلاق لصاح الناس: هذا ظلم مبين ، وهذا ما فطن إليه الفيلسوف الإنجليزي (بنتام) في كتابه "أصول الشرائع"، فقال: "لو ألزم القانون الزوجين بالبقاء ـ على ما بينهما من جفاء ـ لأكلت الضغينة قلوبهما، وكاد كلٌ منهما للآخر، وسعى إلى الخلاص منه بأية وسيلة ممكنة ، وقد يهمل أحدهم صاحبه ، ويلتمس متعة الحياة عند غيره ، ولو أن أحد الزوجين اشترط على الآخر عند عقد الزواج ألا يفارقه، ولو حل بينهما الكراهية والخصام محل الحب والوئام لكان ذلك أمراً منكراً مخالفاً للفطرة ومجافياً للحكمة ، وإذا جاز وقوع هذا بين شابين متحابين ، غمرهما شعور الشباب فظنا ألا افتراق بعد اجتماع ، ولا كراهة بعد محبة ، فإنه لا ينبغي اعتباره من مشرع خير الطباع ، ولو وضع المشرع قانوناً يُحرم فض الشركات ويمنع رفع ولاية الأوصياء ، وعزل الشركاء ومفارقة الرفقاء ، لصاح الناس : هذا ظلم مبين. وإذا كان وقوع النفرة، واستحكام الشقاق والعداء ليس بعيد الوقوع فأي الأمرين خير ؟ ربط الزوجين بحبلٍ متين ، لتأكل الضغينة قلوبهما، ويكيد كلٌ منهما للآخر؟ أم حل ما بينهما من رباط وتمكين كلٌ منهما من بناء بيت جديد، على دعائم قويمة، أو ليس استبدال زوج بآخر خير من ضم خليلة إلى امرأة مهملة ، أو عشيق إلى زوج بغيض ؟ "(4).
والحقيقة أن الإسلام كره الطلاق ونفَّر منه والرسول ـ صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق" (5) ، واعتبر الحياة الزوجية لها قدسية خاصة لابد من احترامها، وأن هدمها ليس بالأمر السهل ، فهي ميثاق غليظ ينبغي عدم نقضه بسهولة، والقرآن الكريم يقول فيه :
﴿ وَأَخَذْنَا مِنكُم مِيْثَاقَاً غَلِيْظَاً ﴾ (6)
وقد ذكر (الكاساني) في "بدائع الصنائع" أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن" (7)
وهذا دليل على أن الإسلام صان قداسة الزوجية من العبث بها ، لما يترتب على ذلك من أضرار تقع على الأسرة وعلى المجتمع الإسلامي بأكمله ، فوضع العقبات في طريق الطلاق ليمنع وقوعه أو يؤخره، وحبَّذ التريث في معالجة ما ينشب بين الرجل وامرأته لعل الأمور تعود إلى طبيعتها وهذا ما أوضحته آية الطلاق: ﴿ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾ (
، وذلك لأن الطلاق هو موقف مؤقت لعلاقة لم تتحقق فيها مقاصد الزواج كما ذكرت، ولكنها أيضاً ليست حسماً صارماً، ومن هنا لا يرتضي الإسلام هذه الكلمة في كل وقت بل جعل لها أوقاتاً خاصة عند استحالة العشرة ، بل واستبقى مجالاً للحياة الزوجية بعد الطلاق لعل مشاعر الحب تعود بينهما مرة أخرى أو يتدخل أهل الخير في جو هادئ لإصلاح الصدع بينهما وأولى الناس بهذه المهمة أقارب الزوجين، يقول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ﴾(9).
ولكن في الآونة الأخيرة كانت ظاهرة الطلاق أمراً مزعجاً لدى الأسرة المسلمة لما طرأ عليها من ارتفاع قد تكون نتيجة الظروف الراهنة التي تواجه المجتمعات الإسلامية أو التفكك الذي يعيش فيه العالم الإسلامي اليوم أو التقصير في الحقوق الزوجية سواء كانت مادية أو معنوية أو اجتماعية الأمر الذي جعل كثيراً من المهتمين والمتخصصين والغيورين على الدين الإسلامي إفراد الأبحاث والمؤتمرات لدراسة هذه الظاهرة الخطيرة على بناء وكيان الأسرة المسلمة وإيجاد الحلول المناسبة للحد منها.
وقد قرأتُ رأياً للدكتورة/ هبة إبراهيم عيسى أستاذة الأمراض النفسية والعصبية في كلية الطب ، جامعة عين شمس ملفتاً للانتباه ويؤكد خطورة ظاهرة الطلاق على بناء وكيان المجتمع الإسلامي ، وبينت الآثار الخطيرة المترتبة عليه ، فهي ترى أنه "كثيراً ما يختلف الزوجان في خلافات حادة ، ويكون فيها الطلاق حتمية مؤكد، وفي حالات أخرى يكون الطلاق نتيجة للعناء الذي قد يصل إلى كثير من التوتر بين طرف العلاقة وقد يؤدي إلى أعراض نفسية قد تصل إلى أمراض كالاضطرابات النفسية الجسمية كالقيء المتكرر أو ارتفاع ضغط الدم أو الصداع المزمن أو ظهور طفح جلدي . وقد يذبل الطرف الذي يعاني القلق و الإكتئآب، ويصاب بفقدان الشهية مع كسل شديد وعدم الاهتمام بأي شيء وفقدان الوزن" (10). فمثل هذه النتائج الخطيرة تستدعي منا فعلاً الوقوف بتأني أمام ظاهرة الطلاق والعمل على الحد منها بكل الحلول والوسائل المتاحة .
ومن هنا أرى أن يسر الشريعة الإسلامية قد بان ووضح ، فى الحكمة الإلهية العظيمة من تشريع الطلاق .
ثانياً : لماذا وضع الطلاق فى يد الرجل ؟
و أقول: إذا كانت الشريعة قد جعلت الطلاق في يد الرجل ، فقد أعطت المرأة في المقابل حق الخلع . وعندما جعل الطلاق في يد الرجل ألزمته الشريعة بالتكاليف المالية الإجبارية ، فليس من العدل أن يكلف بالمهر والنفقة والسكن والكسوة ونفقة الأولاد ثم لا تعطى له صلاحية مناسبة لما أعطي من مسئوليات.
ولا يختلف اثنان اليوم على استخدام أكثر الرجال للجانب الأيسر من المخ ، وأقوى ما فيه الواقعية والعقلانية، واستخدام أكثر النساء للجانب الأيمن من المخ وأقوى ما فيه الخيال والإبداع والعاطفة، فالشارع راعى الفروق الفردية بين الجنسين عندما جعل قرار الطلاق بيد الرجل، ومع ذلك أعطى للمرأة حقها بطرق ووسائل تناسب طبيعتها العاطفية .
حدث في تونس أن أعطيت المرأة حق الطلاق بنفس وسائل الرجل وطرقه، فزادت نسبة الطلاق في تلك السنة أضعافاً مضاعفة ثم تم تعديل القانون وتبين أن أكثر النساء اللاتي أوقعن الطلاق كان تطليقهن لأزواجهن بسبب ردة فعل عاطفية .
ومن المعروف إدارياً أنه لا بد أن يكون هناك تناسب بين الصلاحيات والمسؤوليات.
الطلاق في الإسلام ليس نزوة عارضة ولا غضباً إنما هو حل مناسب في حالة استفحال المرض واستعضال الداء وليس صراعاً من أجل البقاء . لا بد أن نفرق بين جمال النظام وعدالته وسوء الاستخدام .
دعونا نتصور حالة زوجة مع زوج لا يحترمها ولا يحترم العلاقة الزوجية ولا يؤدي لها حقوقها بل يؤذيها ويضرها، ألا يكون الطلاق حلاً مناسباً لها، أم أننا بقانون الأحوال الشخصية نتركها تقاسي وتعاني وتتعذب دون طلاق مع هذا الرجل الذي لا يحسن عشرتها .
لو وقع الطلاق فالشريعة تعطي للمرأة تعويضاً نفسياً ومالياً وهو نفقة العدة . وقد أدركت الدول الغربية التي كانت تحرم الطلاق وتمنعه خطأها فيسرت الحصول على الطلاق، وكان آخر هذه الدول إيطاليا، حيث أباحته عام 1971م ويكفي أن نعلم أنه ما إن أقر الطلاق في إيطاليا حتى قدم إلى المحاكم أكثر من مليون طلب طلاق .
من المفارقات كما يقول الغزالي: "في الوقت الذي تحتج فيه المرأة المصرية على الطلاق تحتج المرأة الإنجليزية على أبدية الزواج"
إضاءات :
رغم التحسن في الأوضاع الاقتصادية للعمال في أوروبا إلا أن الوضع الاقتصادي للمرأة هناك لا يزال حرجاً، فالمرأة لا تزال تأخذ نصف أجر الرجل، كما أن عليها إذا أرادت الزواج أن تتنازل عن اسمها واسم أبيها لتصبح تابعة لزوجها حتى في الاسم ، كما أنها تفتقد في كثير من الأحيان حقها في التصرف في أموالها إلا بعد إذن زوجها ، والرجل غير مسؤول عن نفقتها أفلا نحمد الله على ما من به علينا ؟
يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل التالي:
Ahmed_gz@yahoo.comهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته
ملحق الهوامش
(1) الأسرة تحت رعاية الإسلام ، الشيخ/ عطية صقر، ج6، ص275 .
(2) سورة النحل – آية 122
(3) البقرة / 199 .
(4) أصول الشرائع، المجلد الأول، ص161-166، ترجمة: فتحي باشا زغلول .
(5) فيض القدير، ج10، رقم الحديث: 7794، سنن أبو داود، ج2، رقم: 2177
(6) النساء 21 .
(7) حقوق الإنسان في الإسلام، علي راضي، ص98 .
(
الطلاق / 1 .
(9) النساء / 35 .